الانعتاقي المجهول!/ محمد فال ولد سيدي ميله

أطبق الصمت شفتيه على عشْـرية “مجهولة” من تاريخ موريتانيا عرفت ميلاد أول عمل انعتاقي تشهده هذه الأرض. كان ذلك ما بين 1923-1933.
إذن قبل 43 سنة من ميلاد حركة الحر، كانت المعركة طاحنة بين انعتاقي وحيد، أعزل، لا علاقة له بموريتانيا، من جهة، وملاك العبيد الموريتانيين والمتواطئين معهم من الإدارة الفرنسية الاستعمارية، من جهة أخرى.
في تلك العشرية، أي قبل 83 سنة من الآن، لم يكن أي موريتاني يملك وعيا، قلّ أو كثـُـر، بخطورة الرق وبما ينطوي عليه من جرم. وحده ذلك “الضيف”، المحكوم عليه بالإقامة الجبرية في تجكجه، ومن ثم تامشكط، تجرأ على مواجهة الاسترقاقيين وتجار العبيد والإدارة الفرنسية بما يلزم من حجج وشكاوى ونشاطات أدى بعضها إلى تحرير عدد من العبيد وإنْ فشل جلها أمام قوة الواقع وميزان القوة. إنه الويس هونكانرين المنحدر من جمهورية الداهومي، المعروفة حاليا بـ”بنين”، والمُرَحّل قسرا إلى موريتانيا بسبب آرائه المزعجة للقوى الاستعمارية، رغم أنه ليس مقاوما بمعنى الكلمة، إذ يقبل بـ”الرسالة الحضارية للاستعمار”، لكنه ظل يرفض اعتبار أبناء المستعمرات مواطنين من الدرجة الثانية.
ولد الويس هونكانرين يوم 25 نوفمبر 1887 في ما كان يعرف بـ”الداهومي” (دَاوْمَه).. كان من ضمن أول المتخرجين من مدرسة تكوين المعلمين بسان الويس (السينغال) سنة 1907.. طردته القوى الاستعمارية الفرنسية من سلك التعليم سنة 1910، وسجن مرتين ما بين 1911 و1912 لأسباب تتعلق بنشاطاته الصحفية، ثم وضع تحت الإقامة الجبرية في العاصمة السينغالية دكار.. أصبح صحفيا متعاونا مع جريدة “لا ديبيش” الاستعمارية، ثم محررا في صحيفة “الديمقراطية السينغالية” للسياسي والمحامي ابليز جان.. في سنة 1914، عاد الويس هونكانرين إلى بلاده فأنشأ فرعا لرابطة حقوق الانسان الفرنسية، لكنه أدين مرة أخرى على خلفية مقالات حادة كان ينشرها حين ذاك في جرائد تصدر في دكار.
انتقل الويس هونكانرين إلى العاصمة الفرنسية باريس حيث أنشأ صحيفة “المبعوث الداهومي” سنة 1920.. عاد إلى الداهومي ليشارك بحيوية في أحداث بورتو نوفو المندلعة في شهر فبراير 1923 مما حدا بالاستعمار الفرنسي إلى اعتباره “مُحَرّضا خطيرا”، فحوكم وحُكِمَ عليه بالإقامة الجبرية النافذة في موريتانيا مدة 10 سنوات.. في سنة 1931 جمع قصاصات متفرقة حول العبودية في موريتانيا، طبعها وكتب مقدمتها وروّج لها داخل أوساط الرأي العام بفرنسا، المؤرخُ الفرنسي ألي رينيي (Élie Reynier) القيادي البارز برابطة حقوق الانسان التي تأسست سنة 1898، وأحد أكبر المثقفين المدافعين عن النضال السلمي لقناعته بأن “الحرب لا تقتل الحرب” حسب مقولته الشهيرة.
عندما عاد الويس هونكانرين إلى بلاده بعد انتهاء فترة نفيه في موريتانيا، حكم عليه، في شهر مايو 1936، بغرامة مالية إثر نشره مقالات لاذعة تجاه الإدارة الفرنسية..
وبسبب ميولاته الديغولية خلال الحرب العالمية الثانية، اتهمته حكومة فيشي، العميلة للغزاة النازيين، بالتجسس لصالح ابريطانيا، فاعتقل يوم 1 يناير 1941 وسجن في كوتونو. وفي شهر سبتمبر رُحّل إلى دكار وصدر عليه حكم ابتدائي بالإعدام. ومع أن الحكم ألغي بطعن، فقد رحّلته السلطات الاستعمارية قسرا إلى السودان الفرنسي، المعروف حاليا بجمهورية مالي. وفي يوم 15 دجمبر 1947 أطلق سراحه وعاد إلى بلاده: الداهومي.
إن مناهضة الويس هونكانرين لممارسة الرق في تجكجه لا تعني أن بقية القرى والمدن والبوادي الموريتانية كانت خالية من الظاهرة، وإنما لم يعرف هذا المناضل “المنسي” غير تلك المدينة، أو مدينة تامشكط التي حُول إليها بسبب إحراجه للسلطات الفرنسية وباعة العبيد في تجكجه، أو – ربما- مدينة كيفه التي أقام فيها أياما قليلة إبان جولة لأحد الولاة الفرنسيين. وبالتالي فلا شك أن الويس هونكانرين كان سيقوم بنفس الشجب ونفس النضال لو أنه قضى محكوميته في المذرذره أو أطار أو عدل بكرو، مثلا…
ويجدر التذكير أن الإقامة الجبرية لا تمنع من حق التنقل والتواصل مع الناس والمشاركة في الشأن العام، لكنْ داخل الحيز المحدد في الحكم الصادر ضد المدان. وبالتالي كان الويس هونكانرين فضوليا نشطا، يتجول جيئة وذهابا في أحياء تجكجه، لدرجة جعلته على اطلاع واسع بكل ما يجري من حوله في المدينة، بل نسج علاقات داخل الأوساط الهشة والفئات المحرومة تحصّل من خلالها على كل المعلومات والأخبار الضرورية لنضاله المستميت ضد ممارسة الرق وضد سيف الدونية الفئوية المسلط على مجتمع “لمْعَلـْـمين”. لقد نسي المناضل معاناته الشخصية كسجين، واندفع بكل ما أوتي من قوة في كفاح مرير ضد ملاك العبيد بغية تحرير الأرقاء وعرض مأساتهم أمام النخب والسلطات الإدارية والقضائية الفرنسية.
جاء في جريدة “ليمانيتي”، الصادرة يوم 4 يونيو 1923، أن السيد فورن، الوالي العام لداهومي، اتخذ قرارا تعسفيا بترحيل رجلين أسودين، هما الويس هونكانرين وسونيغبي، ليقضيا إقامة جبرية، على مدى عشر سنوات، في موريتانيا. والحقيقة أننا لم نسمع بأي نشاط قام به سونيغبي في موريتانيا، ولا نعرف ما إذا كان أنهى محكوميته فيها، أم خـُفـّف حكمه بسبب الانضباط، أم رُحّل لجهة أخرى، أم مات في منفاه. كل ما تسعفنا به الوثائق عنه أنه كان يتقاضى من الإدارة الفرنسية المحلية مبلغ 150 فرنك شهريا ليعيل بها نفسه في منفاه بموريتانيا. بينما كان الويس هونكانرين يتقاضى 250 فرنك لإعالة نفسه في ذات المنفى!!.
يصطدم الباحث في نضالات الويس هونكانرين بمعضلة تتعلق ببعض أسماء ضحايا الرق والاسترقاقيين، فهو غريب على هذه الأرض، لا يعرف من لغة أهلها إلا النزر، وبالتالي فالقلة القليلة من الأسماء الواردة في مرافعاته غير دقيقة من حيث الصياتة والنطق. وسيكون على الباحث أن يجد أقرب الأسماء الموريتانية إلى الأسماء التي يوردها الرجل كما يسمعها، أو ينقلها الباحث كما هي مع ضرورة إعذار الكاتب الانعتاقي. وأخشى من أن الويس ربما يضع أحيانا اسم المالك بدل المملوك، إلى آخر الأخطاء المقبولة بالنسبة لعابر سبيل لا يعرف المجتمع ولا لغة التخاطب فيه.
لا أحد يمكنه أن ينازع الويس هونكارين في أنه أول انعتاقي تعرفه موريتانيا. ففي عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، عارض تساهل الإدارة الفرنسية مع باعة وملاك العبيد، واتهم السلطات الفرنسية بالتواطؤ والارتهان للرشوة من قبل ملاك العبيد والنخاسين الموريتانيين.
ورغم ما صادرت السلطات الاستعمارية من رسائله المتضمنة تنديدا صريحا بأمثلة حية من ملك العبيد والمتاجرة بهم، ورغم ما أخفته منها، وما مزقته كي لا يصل السلطات العليا والمحاكم المركزية والصحف الحرة، فقد ترك الويس هونكانرين أرشيفا مهما هاجم فيه البيظان وما يقوم عليه مجتمعهم من نظام فئوي يقصي ويحتقر شريحتي العبيد والصناع التقليديين، مطالبا بالقضاء على الرق وتطبيق القوانين الفرنسية المجرمة له، وإنصاف الفئات المهمشة.
في هذا الصدد، وبلغة لا تخلو من الحدة، عرض الويس هونكانرين، أمام السلطات الاستعمارية العديد من حالات بيع العبيد في عمليات علنية يحميها الإداريون والقضاة الفرنسيون أنفسهم. وهو لا يبتغي من وراء ذلك “غير إشاعة الحرية والعدالة الفرنسية على ربوع هذه الأرض التي يرفرف عليها العلم الفرنسي”، حسب تعبيره.
يقول المناضل البنيني الويس هونكانرين ان عبيد موريتانيا ينحدرون أساسا من أعراق البمباره والسينوفو والساراغولي والتوكولير والبوبوس والموسي (مُوشَاتْ)… مضيفا أن العبيد، بالنسبة للبيظان، ليسوا أكثر ولا أقل من دواب للحمل. مؤكدا -في إحدى مرافعاته الكثيرة- أن الأسياد يمنعون عبيدهم من المسكن والملبس والزواج الشرعي، مع إرغامهم على العمل، ليلَ نهار، دون شفقة. ويتساءل الويس هونكانرين قائلا: :”كم من مسترق في هذه البلاد قــُـتل أو اغتيل من قبل أسياده بتهمة الكسل أو السحر؟”. مثال ذلك، ما أورده المناضل الانعتاقي من أن “والدة تسيلم بنت عبد الرحمن قتلها سيدها محمد نافع في تجكجه بدعوى تكاسلها”. ويمضي الويس هونكانرين ليعرض أمام المحاكم الفرنسية قصة مذبحة مروعة ارتكبها الاسترقاقيان المدعوان الحسن وحمود وراح ضحيتها الأرقاء بكو والد العبدة أم الخير، وأمه تمبه، وأخته اسويلكه. دون أن يوضح الانعتاقي الأسباب الكامنة وراء هذا الجرم البشع الفظيع.
ويقول الويس هونكانرين ان الأطفال المولودين من زواج بين عبدة للبيظان ومجندين سينغاليين أو إداريين فرنسيين عاملين في موريتانيا، يصبحون مباشرة عبيدا حسب العادات الهمجية للمجتمع. ويضرب الانعتاقي مثالا بحاكم سابق لدائرة تكانت وقائد مفرزة اسمه آنسليم ديبوست كان قد تزوج عبدة تدعى جهميل (أو جميله أو اجْمَيْلـَـه)، ورزق منها طفلا اسمه محمد. هذا الطفل، مثل جميع الخلاسيين، تدفع له الإدارة الفرنسية في موريتانيا تعويضا ماليا شهريا يصل 20 فرنك. وبالرغم من وضعه، كخلاسي هجين، منحدر من حاكم (فرنسي أبيض) قاد دائرة تكانت (تجكجه، المجريّه، تيشيت)، فقد بقي محمد ديبوست، البالغ حاليا أربع سنوات، عبدا بين أيدي البيظان. وعندما يكون في سن العمل سيقوم بنفس الواجبات المخصصة للعبيد بتمالؤ الإدارة الفرنسية ممثلة في الانتهازيين والزملاء السابقين من ذات الإدارة التي ضحى والده بحياته من أجلها.
ويكتب الويس هونكانرين من منفاه للحكومة الفرنسية أن “الاستعمار، في حضاراتنا اليوم، لم يعد غير تجارة ومال وأعمال. إلا أن الوقت لم يعد لصالح التلاعب بالقانون. فالعبيد لم يعودوا يطيقون أكثر. لقد أبيدوا. لقد حان الوقت لنقول للانتهازيين الذين يتحكمون في مصير موريتانيا: فرنسا أولا وجيوبكم ثانيا. كفى من المتاجرة بقضية خطيرة كالعبودية”.
يذكر السجين البنيني الويس هونكانرين أن استرقاق البشر في موريتانيا، والاعتراف الرسمي بالرق من قبل الإدارة الفرنسية رغم القوانين الصريحة، وانعكاسات الظاهرة المدمرة، أمور أثرت على بعض الضمائر الانسانية الطيبة مثل الطبيب آسامويْ العامل في مَشـْـفَى مدينة كيفه. ففي تقرير رسمي أشّرَ عليه وحَوّله حاكم الدائرة إلى الإدارة الصحية في سان الويس بالسينغال، يقول آسامويْ: “موريتانيا، المتصحرة في جزء كبير منها، لا تنتج أي شيء تقريبا لسد حاجيات سكانها. كل شيء يأتيها من السودان (مالي) أو السينغال. إذا حدثت كارثة طبيعية في السودان أو السينغال ستصبح مستعمرة موريتانيا عاجزة عن توفير الغذاء لساكنيها، وبالتالي ستحدث فيها مجاعة، وسيكون ذلك بمثابة خسف تام للبلاد. هذا الأمر الخطير يتطلب النظر بتمهل، وسيكون حله في صالح المستعمرة لا شك. البيظان يحتقرون كل الأعمال. فأي شخص يستخدم يديه للقيام بعمل يعتبر -بالنسبة لهم- وضيعا وحقيرا لا قيمة له. هذه الأحكام المسبقة تشكل، في الوقت نفسه، مصدر اعتزازهم وسبب كسلهم. فمأساة البيظان الحقيقية تتمثل في العظمة التي يمنحون لأنفسهم والفوقية والكبرياء تجاه العمال الذين يشكلون العمود الفقري والحبل الشوكي للبلاد. كل بيظاني (من الطبقات المهيمنة) يعتبر نفسه أرستقراطيا خلقه الله ليعيش على حساب الآخرين. هكذا فإن الأعمال الصناعية والفلاحية يقوم بها سكان أصليون يُدعون لمْعَلـْمِـينْ (حدادين ونجارين وإسكافيين ودباغين…)، كما يقوم بها الحراطين والعبيد السود القادمون في غالبيتهم من السودان (مالي). من هذا المنطلق، يشكل لمْعَلـْمِـينْ فئة محتقرة ومنبوذة لدرجة أن أي واحد منها لا يمكنه أن يتزوج بامرأة من الطبقة التي تدّعِي أنها أرستقراطية. هذا الاحتقار يكون أشد وأوضح بالنسبة للسود الذين يحتلون لدى البيظان نفس مرتبة الحيوانات. إنهم يزرعون حقولا هزيلة يعطون حصادها الزهيد، الذي لا يغطي حاجياتهم الخاصة، لأسيادهم بدعوى ما يسمونه “الزكاة”: تلك الهدية الإقطاعية التي يقدمها الحراطين رغم أن الأغلبية منهم لا تملك ثيابا أو مساكن تقيها الأمطار والبرد والحر. بل كثيرا ما لا يأكلون حَـدّ الشبع. وحتى السيد الذي لا يمكنه أن يعيش إلا بثمار عمل هؤلاء العبيد، لا يمكنه أن يعطيهم ما لا يملك. لذلك عَـمّتْ المجاعة وكل المآسي المرافقة لها. هنا يكون المثل واردا: “من يُعَـوّل على مراجل الآخرين لا يتعشى بما فيه الكفاية”.
إذن أقترحُ، من أجل حماية اليد العاملة في موريتانيا، التعجيل باستخدام كل الوسائل لمحاربة الأحكام المسبقة التافهة لدى البيظان والمعيقة لرُقيـّـهم. تلك الأحكام المسبقة التي تجعل من الكسل شرفـًا. إن على الإدارة أن تحارب هذه الأفكار لدى الأسياد في نفس الوقت الذي يتوجب فيه مد يد العون للصناع التقليديين (لمْعَلـْـمين) والحراطين (العبيد). وإلا فإن الحالة القائمة لا يمكن إلا أن تزيد من وقع تلك الأحكام المسبقة وتعمل على تأخير التقدم الحضاري في البلاد وتزرع وتعمق الكراهية بين السكان المحليين. لكن كيف نحمي هؤلاء وأولئك؟. في ما يتعلق بفئة لمْعَلـْـمين، يتوجب القيام بعمل أخلاقي يتمثل في ممارسة نوع من وخز الضمير على الطبقة الأرستقراطية. كما يجب على الإدارة، بهدف تشريف وتشجيع العمل اليدوي وتثمين المواهب، أن تنظم معرضا سنويا تقدم فيه وتعرض من خلاله الفن الذي ينتجه الحدادون. أما بالنسبة للعبيد، فيحسن بنا أن ننظم اليد العاملة لتدخل في مجال المقاولة خدمة للمصلحة العامة. إن على الإدارة أن تسعى إلى فرض عقود عمل منظمة وقانونية بين المسترقين ومُشَغـّـليهم مع ضمان حقهم في التخلي عن العمل في أي وقت والعمل مع أي شخص أو جهة يختارونها طوعيا، مع فرض العمل بتعويض وبرواتب. هكذا سيتمكنون من تلبية حاجياتهم وتكوين أسرهم والحياة بمنأى عن كوابيس الرق. أما البيظان الخـُـمّـل المدللون، الذين تتم حتى الآن ترقية وترويج عيوبهم، فسيكون من مصلحتهم أن نعوّدهم شيئا فشيئا على العمل للحصول على لقمة عيشهم حسب كنه الدين الذي يشجع الإنسان على العيش بعرق جبينه. الأمر الذي يمكنهم القيام به لا شك، والدليل على ذلك أنهم عندما يكونون بمنأى عن الأعين يعملون على حد سواء مع العبيد المدعوين حراطين. وعلى كل حال، لم نر في الحياة من مات لأنه زاول عملا”.
انتهى هنا تقرير الطبيب آسامويْ كما نقله الويس هونكانرين الذي يؤكد بأن والي موريتانيا، السيد شازيل، لم يفعل أي شيء للقضاء على وجع المستعمرة منذ أن وصل هذا التقرير إلى المصالح الصحية في سان الويس. “والحقيقة أنه لن يفعل شيئا أبدا لصالح كائنات بشرية ظل يضحي بها لمصلحته الخاصة السافلة المنحطة. لن يفعله أبدا ما لم يطح به الخيّرون من فوق صهوة جواده”، على حد تعبير المناضل.
في سنة 1930، قام والي موريتانيا، السيد شازيل، بجولة قادته إلى كيفه وتامشكط وبعض المدن الموريتانية. خلال تلك الجولة، انتهز الويس هونكانرين الفرصة للقيام بإحدى محاولاته الكثيرة الرامية إلى تحرير بعض العبيد أو الإبلاغ عن مآسيهم اليومية، فسلم للوالي شكوى باسمه وباسم لائحة من العبيد. غير أن الوالي رفض النظر في تلك الشكوى دون مبرر واضح، الأمر الذي لم يستغربه الانعتاقي، متسائلا في تهكم: “أليس الوالي حبيسا لدى تجار الرقيق؟ ألم يحصل منهم، خلال مروره بتامشكط، على هدايا قيّمة: خيول، إبل، بقر، ضأن ومقتنيات ثمينة من الصناعات التقليدية سيتقاسمها مع السيد لاهور: حاكم دائرة تكانت؟”.
تلك الشكوى كتبها الويس هونكانرين يوم 1 مايو 1930 في تامشكط، وجاء فيها ما نصه: “السيد الوالي، في الوقت الذي ينهال عليّ فيه باعة العبيد في دائرة تكانت، مدعومين ببعض مؤيدي الاسترقاق من الإدارة الفرنسية، ضمن هجوم شرس ضد شخصي وضد التعساء من أبناء السودان والسينغال الموجودين في حالة استرقاق، يسعدني أن تقبلوا أن أعرض عليكم شكواي وشكوى أناس مظلومين يطالبون بالتعامل معهم لا كحيوانات حقيرة، بل كجزء من أبناء فرنسا يستحقون المساواة أمام القانون مع باقي أبناء الدولة.
أيها الوالي، نرجو أن تشرفنا بدقائق قليلة من الصبر والانتباه والرحمة لتدرس قضيتنا وتضعنا في منأى عن حملات التشهير. إن ممارسة الرق على مقربة منكم، وعلى مرأى ومسمع من محكمة الدرجة الثانية التي تخول لها المادة 22 من المرسوم الصادر يوم 2 مارس 1924 قمع تجارة الرقيق، وإن ممارسة العبودية على أرض فرنسية كموريتانيا الواقعة ضمن إفريقيا الغربية الفرنسية حيث يرفرف العلم الفرنسي، رمز السلام والحرية والعدالة، وإن شذوذ موريتانيا عن قاعدة تطبيق القانون الفرنسي، وضعف فرنسا عن تطبيق قانونها، ليس معرة أو تناقضا فاضحا، بعد 25 سنة من الاحتلال، فحسب، لكنه أيضا عين المساس بحرية وحياة السود، الأمر الذي لن يرضاه محبو فرنسا، الساعون إلى نشر قيّمها الحضارية في هذه الرقعة. إن النصوص القانونية الفرنسية لا تقبل أي عذر أو تساهل في هذا الصدد، فالمرسوم الصادر يوم 10 نوفمبر 1903 يقول، في المادة 75 منه، بأن العدالة الفرنسية ستطبق العادات والأعراف المحلية ما لم تتعارض مع مبادئ الحضارة الفرنسية. أما المرسوم الصادر يوم 27 ابريل 1848 فيلغي العبودية في كل المستعمرات والأراضي التابعة لفرنسا. وبالنسبة للمرسوم الصادر بتاريخ 12 دجمبر 1905 فإنه يعاقب بسنتين إلى خمس سنوات من السجن النافذ وبغرامة من 500 إلى 1000 فرنك، مع الحرمان من الحقوق المدنية المقررة في المادة 42 من القانون الجنائي، كل عمل يُرتكب بنية انتزاع حرية شخص دون إرادته.
السيد الوالي، عندما عرضتُ هذه النصوص أمام محكمة الدرجة الثانية بتجكجه، اعتبرتْ البطانة الاسترقاقية وتجار العبيد أنني أرتكب جريمة في حق المجتمع، وبالتالي وجدوا ذريعة للتحريض عليّ، لكنني وُفقت في إقناع حاكم الدائرة، رئيس المحكمة المذكورة، بتحرير العبيد الذين تجدون أسماءهم هنا، والذين يسعدهم أن تكونوا إلى جانب المُشَرّع، وأن تمَكـّـنوهم من الحصول على وثائق مكتوبة تجعلهم قادرين على الحركة في الدائرة دون أن يكون بمقدور الطغاة الإضرار بهم. يتعلق الأمر بالعبدة مارينه، الملقبة امباركه، المولودة في بوغوني بالسودان الفرنسي (مالي) والتي سرقها أصحاب القوافل البيظان من بوغوني وبيعت مرات في تجكجه، ثم أعطيت كمهر للبنت الكبرى لسيدها الحالي. إضافة إلى “زوجها” مامودو وأبنائهما (بلال، واسليمان، و”اسويلم” وطباختي سيده المدعوة في رسالة أخرى: اسويلمه بنت مامودو)، وامبارك وابنته فاطمه، ومحمد “ولد” فاطمه، وتسيلم بنت عبد الرحمن (إبنة قتيلة الكسل الآنفة).
لقد طرحتُ قضية هؤلاء العبيد الموريتانيين أمام رابطة حقوق الانسان. وحتى أن مارينه نفسها وأهلها تقدموا بشكوى أخرى إلى محكمة سان الويس دون جدوى حتى اللحظة. الشكوى المذكورة سُجلت ضد المدعو عبدي ولد اخليفه، وكتبت في تجكجه قبل تسليمها لمحكمة سان الويس بتاريخ 10 يونيو 1930. وقد جاء فيها: إلى وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسان الويس، المكلف بمراقبة العدالة في موريتانيا. السيد الوكيل، بالنظر إلى رسالتنا بتاريخ 1 مايو 1930 التي وصلتكم بالفعل، يطيب لنا أن نحيط كريم علمكم أن النقيب لاهور، حاكم دائرة تكانت، ألغى قرار محكمة الدرجة الثانية بتجكجه المحرر لنا من أغلال العبودية بعد الشكوى التي تقدمنا بها، كما لو أن الحياة حكمت علينا بأننا عبيد بالمنشأ. وحتى أن الحاكم أمَـرَ البيظان، تجار العبيد، الذين يدّعون أننا ملك لهم، أن يلقوا علينا القبض مجددا وأن يسيئوا معاملتنا، بيد أن جريمتنا الوحيدة تكمن في أننا سود، وبالتالي نعتبر عبيدا. لقد أخذَنا هؤلاء البيظان وشدوا وثاقنا وضربونا بهمجية. والأمرّ من ذلك أنهم أرغمونا، بتواطؤ النقيب لاهور، على العمل دون راحة ودون تعويض. السيد وكيل الجمهورية، ابحثوا في المادة 22 من قانون الجنايات وستجدون أن لديكم الحق في متابعة كل الجرائم التي يتم إخباركم بها. وأكثر من ذلك، فإن المرسوم الصادر بتاريخ 22 مارس 1924 يمنحكم سلطة تصحيح الأخطاء والانتهاكات التي ترتكبها محاكم الدرجة الثانية”.
لا أعتقد إلا أن القارئ يفهم معي أن الرسالة السابقة لا يمكن لمجموعة من العبيد، الواقعين فعليا تحت نير العبودية، أن يكتبوها في ثلاثينات القرن الماضي. وبالتالي يتضح أن الويس هونكانرين كان يلعب دورا مهما وصعبا في إقناع العبيد بأهمية وضرورة توقيع شكاوى يحررها هو نفسه باسمهم (وتارة باسمه، وتارة باسمهم وباسمه معًا) كنوع من مساعدتهم في إبلاغ تظلماتهم وحججهم.
في إحدى رسائله، يحاول المناضل الويس هونكانرين إقناع والي موريتانيا ببطلان ما يؤسس عليه البيظان ممارستهم للظاهرة، فيقول: “إن الحجج التي يقدمها البيظان الاسترقاقيون، المدعومون من قبل مؤيدي الرق من الإدارة الفرنسية، لتبرير الرق وانعكاساته المدمرة، والمعاملات السيئة، وحط الانسان إلى مرتبة الحيوان، لا تتأسس إلا على السفسطة. هذه الحجج عندما تمرر عبر غربال العقل لا تصمد أمام الأنوار. يقول البيظان: نحن لسنا متعودين على العمل. لا يمكننا زراعة الحقوق ولا إعداد الطعام دون العبيد. وإذا تم القضاء على الرق ستموت الزراعة في هذه البلاد وسنموت كلنا من الجوع. فيرد عليهم الإداريون الفرنسيون: معكم حق. أنتم لا تستغنون عن العبيد. مارسوا العبودية كما يحلو لكم.. السيد الوالي، قضية اليد العاملة حسمها المقرر الصادر في دكار بتاريخ 26 ابريل 1910. إذ يتضح من هذا المقرر أن على البيظان، الكسالى، الخائفين من العمل، إن كانوا يريدون عمالا، أن يتعاقدوا معهم شفهيا أو كتابيا، لمدة معينة وبراتب معين، وأن يكون العمال أحرارا في أن يعملوا مع هذا المُشَغـّـل أو ذاك دون إكراه. كما أن عليكم أن تبرهنوا للبيظان أن تحرير العبيد لا يمكن أن يقضي على الزراعة، بالعكس من ذلك، سيكون مصدر ازدهار للجميع وستكون له مردودية كبيرة على الجميع. السيد الوالي، إن ما أملاه هذا المقرر لا يضر بمصالح البيظان ولا بمصالح السود المسترقين، لكن نوايا البيظان تظل سيئة لأنهم مسكونون بالضغائن تجاه السود المسترقين. وإنه لمن غير المعقول أن يُشـَـبّك شخص سواعده في انتظار أن تـُسقط عليه السماءُ غذاءَه داخل فمه. فالقرءان الكريم، الذي يتظاهر هؤلاء باتـّـباعه، ينهى عن الكسل والخمول شأنه في ذلك شأن كل الكتب المقدسة. إن على البيظان أن ينصاعوا بإخلاص لمبادئ عقيدتهم. وبالتالي عليهم أن يزاولوا العمل كجميع الشعوب وأن يأكلوا بعرق الجبين وليس بمجهودات الآخرين. أضف إلى ذلك أن هؤلاء البيظان يردون الحسنة بالسيئة بخصوص شعوب السودان والسينغال التي تـُـكـْـرمهم وتحسن ضيافتهم كلما أتوها، فيقابلون ذلك بسرقة أبنائهم وإخضاعهم للعبودية. إن من يحسنون عليهم في السودان والسينغال مِنْ صُنـْـع الله وخـَـلقه مثلهم، وليس من القيّم الأخلاقية في شيء أن يحولوا أبناءهم إلى عبيد يُستغلون في الصحاري ويُمنعون من السكن والغذاء، والأدهى من ذلك أنهم يُقتلون كلما فكر أحدهم في الحرية. إذن البيظان الاسترقاقيون ليسوا مارقين على القانون الفرنسي وحده، بل مارقين أيضا على ما يرضاه الله لخلقه.
السيد الوالي، يجب أن لا ننسى أن بعض البيظان الخيّرين، الذين يعجزون عن إسماع كلمتهم، حرروا عبيدهم دون أي إكراه ودون خوف إلا من الخالق. هذا المثال الحسن يجب السير على منواله دون أن نجعل منه حدثا تافها خدمة للمنافقين المهتمين ببطونهم أكثر من أرواحهم. إن عليكم أن تفرضوا الاحتذاء بهذا المثال الرائع. وهنا يمكن لمثال تيشيت وحده أن يدعم حججنا. ففي تيشيت توجد ثلاث قبائل (…) إحداها عبارة عن عبيد سود محررين أو منحدرين من عبيد حررهم البيظان في تيشيت حتى قبل دخول الاستعمار. لا يعني هذا أن الإدارة الفرنسية لم تفعل أي شيء في تيشيت، لا بالعكس، فالنقيب ماركيني حرر، في وثيقة مكتوبة، عددا من العبيد هناك. ونجد اليوم عدة أسر في تيشيت، وحتى في تجكجه، حررت من ربقة العبودية بوثائق مكتوبة من طرفه هو نفسه، فازداد بذلك عدد العبيد المحررين (من قبل البيظان ومن قبل النقيب ماركيني). كما أن الحاكم ديبوست بدوره حرر عددا لا بأس به من العبيد. وبمساعدة الحاكم ديبوست، كان لي الشرف أنا شخصيا في تحرير بعض عبيد تيشيت. تحرير هؤلاء العبيد لم يُحدث أي اضطراب أو بلبلة، ولم يمنع من تقدم الزراعة، عكسا لذلك، فقبيلة السود المحررة في تيشيت، يتزعمها حاليا قائد من عرقها، وتشكل اليوم فصيلا قويا هو الأنشط في المدينة، وهو أكبر مزاول للزراعة فيها.
السيد الوالي، بالنسبة لكيفه، كانت القرية لا تزيد على ستة أكواخ في سنة 1923، أما اليوم فهي مدينة حية فيها عدة دكاكين والكثير من ممثليات البضاعة الأوربية، كما أن فيها أكثر من مئة كوخ مبنية بشكل جيد بفضل تحرير العبيد السود بأمر من الوالييْن فورنيي وشوتو، الأمر الذي يفند الحجج السفسطائية لملاك العبيد من البيظان ومسانديهم من الإدارة الفرنسية. العبيد المحررون في كيفه يعملون الآن لأنفسهم ولم يعودوا مرغمين على إعطاء ثمار عملهم للبيظان الكسالى الذين ينتظرون قوت يومهم بسواعد مشبّكة. إن مواصلة هذا النهج ستعطينا قرى تزدهر وتزداد، ولن يتملكنا الحزن، بعده، كلما رأينا مشهدا يضم أفراح النخاسين إلى جانب دموع العبيد. إن مثال قــُـرى الحرية (أحياء ليبيرتي) في ليبيريا، ومثال قبيلة “سود تيشيت” المحررة، سيكونان في كل منطقة رمزا للعدالة. هذا العمل ممكن سيادة الوالي، وسيعطينا الأمل في أنكم لن تترددوا في إقامة هذه الأحياء في تجكجه وباقي الدوائر الموريتانية التي تمارس فيها العبودية. فبفضل النتائج المتحصل عليها في تيشيت بالتعاون مع البيظان أنفسهم، وتلك المتحصل عليها في كيفه بفضل مبادرات الوالييـْن النزيهين فورنيي وشوتو، أصبح السود والبيظان في تيشيت ممتزجين متحدين يدا في يد. وإذا ما شجعنا وتابعنا سياسة الواليين فورنيي وشوتو سنحصل على نفس النتيجة في كيفه وتجكجه وغيرهما، وستترك الكراهية، التي تطبع علاقة البيظان والسود، مكانها لمشاعر أنبل. السيد الوالي، سيقول لكم المؤيدون لتجارة الرقيق بأنكم ستضعون الإدارة في مواجهةٍ مع السكان الذين سيهاجرون إلى أماكن أخرى. تلك مجرد أغنية يرددونها، فالبيظان يعرفون أن فرنسا قوية ومتغلبة، وهم يخافون السلطات الفرنسية ويخضعون لها في كل التفاصيل. ولن تكون لديهم الشجاعة لمعارضة قرار قائد المستعمرة. وهو قرار يجد ما يعضده في القانون والمنطق ومبادئ الدين الذي يأتمرون به. فيكفي أن تعلقوا هذا القرار على المركز الإداري، وفي السوق، وفي المسجد، لإسكات الجميع.
السيد الوالي، إن السرقة والاختطاف هما أصل الرق هنا، وهما جريمتان يعاقب عليهما القانون. إذن، باسم فرنسا التي تمثلون، وباسم القوانين، عليكم أن تحرروا هؤلاء العبيد من نير الرق. أعطوا وثائق مكتوبة لتحرير العبيد الذين تقدمنا بقضيتهم أمام محكمة الدرجة الثانية في تجكجه، وساعدوا في منحهم أرضا للزراعة، وساعدوا في تعيين ممثل منهم للسهر على مصالحهم وعلاقاتهم بالإدارة”.
يجدر التنبيه إلى أن الوالي شازيل لم يكترث بنداءات ومبررات الانعتاقي الويس هونكانرين، فظلت صرخاته المستغيثة حبرا يخسر أيامه ولياليه في إراقته على ورق يعتقله الإداريون والقضاة داخل أدراج مكاتبهم في تجكجه وتامشكط وكيفه وسان الويس. إلا أن ذلك لا يسكته إطلاقا، بل يبحث له عن أسباب يُسَطـّـرها في أرشيفه أو في رسائل أخرى، فيقول بأن “العبيد لا يملكون ما يملكه البيظان الاسترقاقيون من هدايا تذهب مباشرة إلى جيب الوالي المتمصلح. لقد بدا غير مكترث بطلباتنا بخصوص نجدة العبيد. ومنذ جولته تلك، تضاعفت المعاملات السيئة تجاه العبيد وزادت وتيرة بيعهم بتواطؤ من حاكم الدائرة. ففي تامشكط، التابعة لدائرة العصابه، تم توقيع صفقة علنية في مقر إقامة الحاكم بموجبها اشترى زعيم من البيظان، يدعى المختار ولد خطره، عبدا بمبلغ 1000 فرنك”.
ويتابع الانعتاقي الأوحد، “الضيف” على موريتانيا، نضالاته الفردية فيتحدث عن عبيد قال بأن ملاكهم ماتوا (في ظروف لم يذكرها!) وجاء آخرون لاتخاذهم عبيدا لهم. وقال الويس هونكانرين ان العبيد المظلومين تقدموا بطلب إلى المحكمة لتحريرهم من عبوديتهم الثانية، لكنها تجاهلت قضيتهم. يتعلق الأمر بمحمد رحال وابنه سيدي، وإخوته لحمر والسالم وميزاب بنت سليمان وابنها السالك، وامعيكه بنت امحيميد وابنها محمد، وانبال بنت اصنيبه، والسيده بنت امحيميد وامها فاطمه امباركه بنت محمود. هؤلاء تم بيعهم كلهم بـ 100 فرك عن كل واحد. “وهم الآن يعضون شفاههم أمام الرسالة الحضارية والانسانية لفرنسا!”، على حد تعبير الويس.
كثيرا ما يتعرض الوالي شازيل (المؤيد بقوة لتجارة الرقيق) لنيران انتقادات الويس هونكانرين خاصة لما أرغم الإدارة في موريتانيا على سد نقص الخزينة بأي شيء!، مما حدا بالإداريين إلى فرض ضرائب عن رؤوس العبيد تماما كما يفعل المستعمر مع رؤوس الأغنام. يقول الويس هونكانرين: “ثمة برهان آخر على المرتبة الدنيئة التي يضع فيها الوالي شازيل بعض البشر. فبعد فترة من جولته (المذكورة أعلاه) لاحظ نقصا حادا في ميزانية موريتانيا، فوبخ حكام الدوائر واتهمهم بأنهم لم يبذلوا كل ما في وسعهم من جهد لجمع ما يكفي من الضرائب. ودون أن يدرس الأسباب الحقيقية لهذا النقص، أمرهم بأن يبدأوا في الجال بالبحث عن أية وسيلة لسد النقص. وبما أنه لم تعد هناك أية مواد يمكن إخضاعها للضرائب في هذه الصحراء، قام بعض الحكام، إرضاء للوالي المساند لبيع العبيد، بفرض ضرائب على رؤوس العبيد تماما كرؤوس الماشية. فكان بعض الحكام يقول لملاك العبيد بأنهم يدفعون في العادة 2.5 فرنك عن كل شاة، وأن الماشية البشرية (العبيد) يجب أن يدفعوا عن كل واحد منها قيمة 5 شياه أي 12 فرنك. وهكذا بدأت الإدارة بإحصاء العبيد لجلب الضرائب. ومنذ ذلك التاريخ نرى بيظانا يدفعون ضرائب عن 10 و20 و30 شاة وهم لا يملكون أية شاة، بمعنى أنهم يدفعون الضرائب عن رؤوس العبيد التي تقابل عددا معينا من رؤوس الغنم. هنا لا نحتاج إلى ذكاء خارق لنفهم أن إدارة الوالي شازيل، التي تحط العبيد إلى مرتبة الحيوان، ليست مستعدة لوقف ملكهم والمتاجرة بهم”.
وفي إحدى قصصه ادراماتيكية، يقول الويس هونكانرين: “خلال مقامي في تجكجه، تعرفتُ على شابة تدعى اسويلمه بنت مامودو، كانت صحتها متدهورة جدا. كانت على شفا الموت دون أن يهتم أي أحد بحالها. كانت مسترقة عدة مرات لأنها مملوكة من قبل عدة أشخاص. إن ملاكها، المدعومين من قبل رئيس المحكمة الفرنسية المحلية، لا يهتمون بها إلا إذا كانت صحتها جيدة.
رأفة مني بهذه العبدة، حملتها إلى مكان إقامتي، وأوليتها كل ما في وسعي من عناية واهتمام. وفي الأخير تمكنتُ من إنقاذها من موت محقق. أسيادها الذين لم يسألوا عنها عندما كانت على فراش الموت، جاءوا لاستردادها لما تفطنوا أنها أصبحت في صحة جيدة. إنهم يريدون إعادتها إلى وضعيتها السابقة كعبدة. لما هموا بذلك، أودعتُ شكوى باسمي وباسم الضحية لدى محكمة الدرجة الثانية بتجكجه داعما حججي بالمواد القانونية الصريحة المجرمة للرق. بما أن رئيس محكمة تجكجه يعرف بأن لدي حرية المراسلة، ويمكنني إعطاء القضية كل ما تستحق من زخم إذا لم يكن الحكم مطابقا لفحوى التشريعات، قرر تحرير اسويلمه من قبضة أسيادها. وبعد فترة وجيزة فعل نفس الشيء بذويها. إذن لم يعد بالإمكان إلغاء هذا الحكم إلا من خلال المحكمة الاستعمارية التي يمكن أيضا للضحايا الاتصال بها والدفع بحججهم أمامها. لكن في هذه البلاد، حيث العدالة أسطورة صنعتها الهدايا، تشاور أسياد اسويلمه مع رئيس المحكمة واتفقوا على تقديم شكوى مني بتهمة محاولة المساس بأمن البلاد وإحداث البلبلة بين مكوناتها. وهنا اتخذ الوالي قرارا بترحيلي من تجكجه إلى تامشكط ليخلو الجو لجلادي العبيد من بعدي. اثنان من هؤلاء العبيد، هما اسويلم وبلال، هربا من نار العبودية وتمكنا من الإلتحاق بي في تامشكط: مكان إقامتي الجبرية الجديدة. وبأمر من رئيس محكمة الدرجة الثانية بتجكجه، تم توقيفهما أمام عينيّ ورميهما في سجن تامشكط قبل اقتيادهما إلى تجكجه وتسليمهما لأسيادهما بعد 15 يوما من الحبس، وحتى ما زرعتْ العبدة اسويلمه بيدها لنفسها، على نفقتي الخاصة، نهبه نفس الأسياد على مرأى ومسمع من رئيس المحكمة على اعتبار أنه لعبدتهم، والعبد، عموما، لا يحق له الملك. ثم اتخذت الإدارة قرارا بمنعي من حق المراسلة الذي منحني الوالي شوتو، كما اتخذت قرارا آخر بالتعامل مع رسائلي بطريقة أخرى. إن تحويلي من تجكجه إلى تامشكط لا يهدف إلا إلى ترك الحبل على الغارب لتجار العبيد، أي التغافل عن الجرائم البشعة في حق العبيد الخاضعين، ككل الموريتانيين، للقانون الفرنسي”.
وفي رسالة تظلم أخرى، يقول الويس هونكانرين: “بما أن تحويل إقامتي الجبرية إلى تامشكط لا يقوم على أي أساس قانوني، وأنه نتاج قذف شنيع، أتقدم بشكوى من الظلم الممارس علي، وأطالب بالتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية. كما أنني أتوجه إليكم، باسمي وباسم الضحايا الذين رُحلت بسببهم، بشكوى من المعاملات غير اللائقة وخرق القانون الذي أتعرض ويتعرضون له. وأرجو من وكيل الجمهورية أن يضمن أمْنَ المتقاضين مهما كانت أعراقهم، وأن يتخذ الإجراءات اللازمة لفرض احترام القانون. ومن أجل أن تنتصر الحقيقة يجدر به أن يأتي بنفسه ليرى الوقائع وينظر فيها”..
من جهة أخرى، يبدو أن وكيل الجمهورية في سان الويس تـَـوَصّل، يوم 10 ابريل 1931، بشكوى من الويس هونكانرين ضد الإدارة المحلية التي تـُخفي أو تمزق رسائله، فكتب إليه الوكيل يطلب منه تحديد عدد وطبيعة تلك الرسائل، مما يدل على أن المسار النضالي للرجل شهد عددا كبيرا من الرسائل التي تضمنت الاحتجاج والشكوى والإبلاغ عن حالات العبودية الممارسة في حيز إقامته الجبرية بموريتانيا، غير أن غالبيتها العظمى اختفت إلى الأبد.
مئات الرسائل إذن، عشرات الاحتجاجات الشفهية، نفـْي وتغريب، تغريم، إهانة، مضايقات، ملاسنات، تشويه: هكذا ظل حال الانعتاقي الويس هونكانرين إلى أن غادر موريتانيا سنة 1933، بعد أن أذاق ملاك العبيد وحُماتهم الفرنسيين كل علقم زعاق.
وفي يوم 28 مايو 1964 انطفأت شعلة حياته المُتـَـوَهـّـجَة بالقيم الإنسانية السامية، فأعْلِـن في جمهورية البنين عن وفاته دون أن يخبره أحدهم بأن القضية التي أرّقــَــتـْـهُ في موريتانيا، في بدايات القرن العشرين، ما تزال -للأسف- محل نقاش وجدل وتجاذبات في بدايات القرن الحادي والعشرين!، وأن اللاحقين عليه، من الموريتانيين المناهضين للرق والحيف الفئوي، لم يُمَجّدوا ذكراه ولم يؤبنوه مرة واحدة، بل إن غالبيتهم العظمى لم تسمع باسمه أبدا!..
Biram Dah Abeid من صفحة الرئيس