“في الأزمنة السابقة، كان الناس – عندما يتوارى أحد الصالحين – يصابون بهلع شديد. فهؤلاء الصالحون الذين يعيشون بين الأحياء، وإن لم يكن باستطاعتهم منع الموت عن أحد، ولكن يُعتقد بأنهم يحولون دون وقوع ما هو أشد من موت الفرد: إنهم يحولون دون موت جماعات بأكملها، أو تدهور مجتمع برمته، أي حصول الموت المعنوي”.
***
تناقل كهول نبيكت لحواش وباعة سوق العاصمة وبرقية DPA من هامبورغ؛ بصفة آنية خلود المعلم محمد يحظيه بن ابريد الليل للراحة على سرير في “مستشفى صدام” العسكري، منتصف فاتح العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، على مرمى حجر حاد من ميدان سقوط شهيد الهوية عبد الله بن عبيد منذ نصف قرن وعقد يزيد عام الاستقلال وسيادة الجمهورية في الصحراء الكبرى التي انتظم وجود المعلم على البذل لرفعتها والتفاني في خدمة أهلها.
ارتفع عويل المنابر فوق شغور المشهد، في صمت حزين؛ تشظى بنعي كادحي السباخ ونخب الميدان، متصوفي السحر ومراهقي الغد؛ ليلحق نواح ولد بوب جدٌ بغياب نقشه تخثر الدموع على تابوت عقل الصحراء الكبرى.
درس الصحافة، ليتفرغ لحياة الفكر وممارسة الأخلاق بعد إيواء حميمي للشعر، كل الشعر؛
سلبته الزنزانات عشر عمره، في سبيل المبدإ والرأي.
امتلك معرفة الناس وتاريخ جلبة البشر، غزوات المناخ وحياة النبات، سلوك الأنعام؛ ومفاتيح الحضارة.
نظر من عرين الفاعل طرحا بطعم الكرامة، ليروي بقوة الأدب هدير وهدوء ذاكرة الأمة، موثقا مسار الدولة والمجتمع.
المعلم بريد الليل مفكر؛ راكم حدة الطرح وروح الاختلاف واطلع بمسؤولية في مواجهة الأخطار المحدقة بالعقول والدولة والمجتمع، وغاص في عتمة رمال المشهد لانتشالهم من مخالب العقوق وأنياب التآمر ووحل الهوان؛ راسما معالم الانتماء وروح الوطنية لأجيال دخلت المعترك، متقفية رسم فكر أعاد ترتيب أشياء الأرض المستلبة منذ مؤتمر برلين.
أثرى بفكره الفلسفي والسياسي على وجه الخصوص، معايير التقييم المرتبطة بهيكل الدولة وروح المجتمع، لاستيعاب السياق وتتبع الأفكار بمنطق الانسيابية والمعنى الذين يستدعيهما الثقل الحضاري لأمة انتشلت دهر الحضارة بترويض تقدمي لآليات وأساليب تحليل المعرفة والعمران.
أحتفظ لصديقي يحظيه بصورة فريدة لجلساته الفكرية التي روت ظمأ الشباب المتلمس درب الوطنية وحضن الانتماء: ما بين سجاد أحمر وثير وكنبة شرقية، تلقفت وسادة جلدية مطرزة بعبقرية أهل الحوظ جسد المعلم المتملص من خمول الرغد، لتتكفل سبابة يسراه لحظة انشغال يمناه بتجسيد متأني لحديث حلو لذيذ عن الوطن والفكر وكرامة الفقير؛ وكانت ابتسامته المنتزعة من لظى الالتزام تقطع دهر الإصغاء لسرد فكر متنور، اكتملت زينته من حكمة الصحراء وفطنة أهلها وارتباطهم بأرض رسم الشعر والطبيعة خريطتها في قلوب رعاة الطمأنينة والحياء.
رحل بهدوء يشبه مقام عقوده الثمانية، تاركا حديثا يليق عن فكره، بقوة نضاله الذي سخره لقيم ومبادئ وجودية، أشبعت روحه بوافر الاستعداد لنهاية مسيره والخلود إلى رحمة الخالق على أرائك الفردوس الأعلى.
رحم الله المعلم محمد يحظيه ولد ابريد الليل؛ إنا لله وإنا إليه راجعون.
عبد الله يعقوب حرمة الله