“القليل جداً من الحرية يجلب الركود والكثير جداً منها يجلب الفوضى “
الفيلسوف الانكليزي برتراند رسل
عندما لا يخجل “المثقف” في بلد من النكوص بعهود المعرفة جهارا، ولا يخل عمدا بمواثيقها وأدبياتها، ثم يضرب عرض الحائط بمقوماتها في السلوك والتعبير، ويهرب في الميدان عن تجسيد تجلياتها، هذا “المثقف” أو بالأحرى الذي حظي بقسط من التعليم ليس جديرا بالثقة إلى رعاية المجتمع والقيادة إلى بناء أركان الدولة ؛
وعندما لا يتورع “الفقيه” بعلمه الغزير عن الشراء بآيات الله ثمنا قليلا، ويصطف بلا حياء أو خوف أو وجل إلى مرامي النفعية البغيضة ومقاصد هذا الاصطفاف إلى غلبة القهر والحيف،
وعندما لا يخشى السياسي تمريغ الضمير في أوحال النفاق والتزلف والتلون والانتجاع، والانحدار إلى مدارك التحايل والسقوط في حبائل التآمر ومنزلقات الغدر وأتون الخيانة؛
وعندما لا يضطلع المسؤول بأداء الواجب، ولا يفي بالحفاظ على الأمانة، ولا يرعى مصالح الوطن ولا يحفظ هيبته، ولا يعطي المثل الحسن ولا يجسد القدوة المثلى لمن حوله ولا يغرس المبادئ وقيم العزة و الكرامة والإباء والشموخ في نفوس لأجيال؛
وعندما لا يميز المواطن الفاسدَ من الصالح ويعلم المرتشي من العفيف، وعندما يدير رأسه عن خيوط أنوار المعارف وإغداق الثقافة، ويظل يعمه تائها في أباطيل الخرافة ومتلبسا بغفلة الزيغ وموغلا في مرتع الضلالة؛
يتضح بما لا يدع مجالا للشك أن إشكالية المثقف أو الثقافة في البلد قد تشكلت في الفسحة المعتمة بين اللا دولة التي كانت الحالة القائمة قبل الاستقلال، بين القديم والجديد أو الماضي والحاضر لتخلع هذه الوضعية لمسات مأساوية إضافية عديدة على الوقع جعلت من المثقف الوليد ينساق إلى دائرة الحياد بسلبية القدرة على التغيير والعطاء والصمت عن تجليات هذا العجز والبحث عمليا عن إحداث التغيير الإيجابي في ميدان بناء شخصية البلد، إلى الثرثرة حول مضامين الانهزامية أمام إلحاحية التغيير بمنطق العصر دون الانخداع بالحريات الثقافية والسياسية الشكلية؛
ولما أن الحريات الثقافية كبست على العقول سريعا – بفعل الميراث القديم في ظل غياب العمل على بعض جوانبه لضرورات المسار – فقد تعطلت العجلة التي أطبق عليها الجمود عن الالتحام بالعصر وبقيت الفوضى في النقاشات القيمة سيدة موقف التباينات والاختلافات في مواضيع لا تخدم تنمية العقل ولا تحرر الطاقات لبناء المعطى الثقافي الذي هو رافعة إن ظلت متعطلة فسيظل البلد في جموده والركب الأممي عنه متقدم بلا توقف ولن تجدي الشهادات التي يعود أصحابها أشد في “الماضوية” وبعدا عن إرادة الالتحام بالعصر بإرث متجاوز مما يوجب أن يتصدّر هموم المهتمين والمشتغلين بحقل الثقافة النقدية والفكر المستقل.
ولما أن الحريات السياسية هي الأخرى وقعت سريعا في شراك الإيديولوجيات السياسية بعيد الاستقلال بقليل فإن الالتباس في الوعي السياسي حصل دون سابق إنذار وأضر مبكرا بعقول الشباب إذ ذاك الذين انشغلوا لتوهم وبعد تخرجهم بالنضالات المتعارضة تعارض المشارب حتى وقع أول انقلاب عسكري على أول نظام يحكم البلد بحزب واحد؛ انقلاب شكل نقطة تحول سياسي مرير حيث التحمت الحركات الاديولوجية باللجان العسكرية التي تتالت في سلسلة غير مسبوقة من الانقلابات واختلط الحابل بالنابل والمدني بالعسكري ولم يبق من المبادئ الاديولوجية إلا ذكرها وقد عادت البلاد إلى أشد ما كانت عليه من اعتبار القوالب الماضوية. وقد تأسست على أنقاض الحركات أحزاب سياسية تمسك العديد منها بإرث الحركات وتفكيرها ولكنها لم تقدم خطابا سياسيا مقنعا ولا برامج تبني. كما أنها لم تحارب تباينا، ولا بنت صروحا، ولا أرست عدالة ولا حاربت في الصميم مساوئ القوالب الماضوية لتوظفها عند الاقتضاء زعاماتها وتزايد بها في البورصات الانتخابية عند كل استحقاق يأتي.
وبين مد وجزر الحريات الثقافية الضائعة والسياسية المرتبكة تعيش الثقافة والسياسة تذبذبا تمتلئ من غوغائيته الآذان وساحاته السجالات العقيمة. لا الثقافة تعطي أكلا ولا السياسة تجدي نفعا والوقع على ذلك يشهد.