رغم أن التقرير النهائي للأيام التشاورية حول إصلاح التعليم اتسم بالارتباك والتمييع من أجل الإلتفاف على مخرجات الأيام التشاورية في مختلف ولايات الوطن التي طالبت بتدريس جميع المواد باللغة العربية فإن هذا التقرير قد نص بوضوح على أن ” تدرس الفرنسية ابتداء من السنة الثانية بوصفها لغة تواصل مع إمكانية استخدامها لغة تدريس لبعض المواد العلمية.”
ومعلوم أن هذا هو أقوى تمكين للغة الفرنسية لأنها سترافق الطفل في مرحلة مبكرة من عمره كلغة تواصل ولغة حاملة للمواد العلمية التي هي وجهة جل التلاميذ، وكأن الجميع لا يدرك خطر هذا الأمر. مع أن الجهات الفرنكفونية التي كان لها دور في كتابة هذا التقرير يفترض أنه قد نمى إلى علمها بحكم صلاتها بالثقافة الفرنسية – التي تقصر عن بلوغ كنهها مطمئنة لما تقول دون أي بحث عما تقصد حقا- أن حزب جبهة التحرير الجزائري في السبعينيات من القرن الماضي قرر تدريس اللغة العربية لأبناء الجزائر المغتربين في فرنسا ووافقت الحكومة الفرنسية على ذلك بشرط أن تتكفّل الدولة الجزائرية بالإنفاق على هذا التعليم، ونتيجة لذلك رغب بعض الأطفال الفرنسيين في تعلّم العربية مع زملائهم الجزائريين، فمنعهم مدراء المدارس، ولمّا رُفعت القضية إلى مجلس الوزراء الفرنسي أكّدت الحكومة هذا المنع ، وذكّرت بالقرار التربوي الفرنسي الذي يمنع تعليم اللغة الأجنبية للأطفال الفرنسيين في المرحلة الابتدائية من التعليم الفرنسي، باعتبار أنّ تعلّم الطفل الفرنسي في المرحلة الابتدائية للغة الأجنبية سيكون خطرا على شخصيته الفرنسية الناشئة.
ولما كان تعلم اللغة على هذا القدر من الأهمية جاهد المستعمر بما أوتي من قوة لفرض سيطرة لغوية على الشعوب التابعة له؛ لأن من يتنازل عن لغته يمكن أن يتنازل عن كل شيء، فيسهل استلابه.
ذلك أن اللغات حينما يغتالها المستعمر فإنها تذهب بإرث ثقافي وحضاري ضخم هو محصلة الخبرات العلمية والتقاليد الاجتماعية الخاصة بالبلد المستعمَر لغوياً.
مثال ذلك ما يحكى عن إيرلندا أنها استعادت استقلالها من انگلترا ، لكنها لم تستطع استعادة لغتها بما تحمل حيث لم يعد يتحدث بها في الوقت الحاضر إلا 2 % من السكان.
كذلك فقد أدركت الكثير من الدول التي تحترم لغتها خطر العولمة اللغوية فأنشأت تكتلات ضخمة حيث كونت الدول الناطقة بالفرنسية الرابطة (الفرنكفونية)، وكونت الدول الناطقة بالإنجليزية منظمة (الكمنولث)، وكونت دول جنوب شرق آسيا رابطة (الأسيان) وأنشأت أمريكا مع كندا والمكسيك رابطة (النافتا).
وأصبحت الحروب اللغوية أشد ضراوة من الحروب العسكرية الظاهرة، وأقوى الأدلة في هذا المقام الحرب الصامتة الضروس الدائرة اليوم بين الإنجليزية والفرنسية .
ولأن اللغة، في أي مجتمع، هي الواجهة الحاملة والحاضنة للملامح الأساسية للهوية، لذلك لا ينبغي الفصل بين الإنسان ولغته الأم مطلقا، خصوصا أن الكلمات لا تتيح قول كل شيء، لكنها تظل مشحونة بمجموع ما لا يمكـن قولـه، وهـو مجمـوع مقترن بها .
ذلك أن القوالب اللغوية التي توضع فيها الأفكار، والصور الكلامية التي تصاغ فيها المشاعر والعواطف لا تنفصل مطلقا عن مضمونها الفكري والعاطفي .
فاللغة من هذه المنطلقات نظام متكامل للقيم الفردية والجماعية والجمالية.
ومع ذلك لمْ تكن اللغة والتعليم عموما، في التصور الاستعماري سببا لبلوغ غاية المعرفة بل إن ذلك كله سيبقى وسيلة ممنهجة لتحقيق الهيمنة على المجالات الحيوية من خلال محاولة القضاء على اللغة الأم وتفكيك النسيج الاجتماعي.
مما يؤدي للهزيمة النفسية وعقدة النقص لكي يتم تنفيذ الاغراض الاستعمارية من داخل البلد نفسه .
وهو ما لمسناه بالفعل هنا في بلادنا حيث أن لفرنكفونيين في موريتانيا ( بعد أن شعروا بالنقص) اختاروا الفرنسية لغة للتدريس في جميع المراحل المختلفة وأصروا على هذا الاختيار، وهم بذلك يكرسون الاستعمار اللغوي بمحض إرادتهم ويقومون بإهدار الموارد المالية والقدرات البشرية بشكل فادح، لأن ” قرار تعليم اللغات الأجنبية يأخذ تمويله من المال العام، حيث يتم مثلا صرف رواتب المدرّسين باللغة الفرنسية من نفقات الدولة تأكيدا لتمويل حروب اللغة إلى جانب فرنسا.