في موريتانيا يقبع الكثير من المهرجين الذين ينتظر كل منهم اللحظة المناسبة من أجل إبراز مهاراته عبر تقديم دوره في تدجين المجتمع وتزيين للقائمين على تسيير الشأن العام داخل حيز النظام سوء أعمالهم.
ثلة من هؤلاء من مخلفات نظام ولد الطايع وبعضهم صنيعة ما بعد انقلاب 2005 وما قبل بداية التجربة الديمقراطية القصيرة التي عاشتها موريتانيا في ظل حكم سيدي ولد الشيخ عبد الله، وأغلبهم من مخلفاتها بعد ما قام الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز بوأد تلك التجربة الديمقراطية التعددية الوحيدة التي شهدتها موريتانيا منذ تأسيسها عام 1960م عبر انقلاب من داخل البلاط.
عصبة المهرجين هذه اعتمدت مغالطة الناس ومحاولة البرهنة على الزيف بالزيغ، وعلى ضعف الانجاز بإظهار الإعجاز، وهو ما شجع قائد انقلاب 2008 على رسم إستراتيجية تراجيدية يهدف من خلالها إلى تزوير المشهد السياسي برمته، بغية تحقيقه أهدافه التي كانت غامضة حين وصوله إلى السلطة، معولا في ذلك على كتيبة من الأفاكين تبرر كل شيء بأي شيء.
ترسخت لدى الدولة فكرة تزوير مقدمات العملية السياسية قبل تزوير نتائجها، فعملت على خلق طبقة سياسية متهالكة في بنيتها ومتهافتة في خطاباتها، وجعلت من بعضها “معارضة” وهي في حقيقتها أقرب إلى موقف القصر من بعض أعضاء الحكومة وقيادات الحزب الحاكم، بعدما حين أقصت المعارضة الجادة وحيدت رأيها، بل وجعلت منها نموذجا في التطرف.
تزوير المشهد السياسي “أو تدنيسه” بدأ مباشرة بعد تنصيب محمد ولد عبد العزيز رئيسا للبلاد في أغسطس2009 حيث بدأت ماكينات النظام تعمل جاهدة من أجل إيجاد آلية تزوير العملية السياسية، وشرعت في البحث عن من يمكن “تدجينه” أو “تبجيله”، ثم إبعاد كل من له رأي يفهم منه الاستقلالية في الخطاب.
كانت أول الخطوات في ذلك هو ما أطلق عليه الحوار الوطني الذي جرى في نهاية 2011 والذي حاول النظام من خلال إعادة خداع المعارضة كما فعل في اتفاق دكار 2009 غير أن المنسقية المعارضة حينها كان لديها بعض التخوفات مصدرها حرص النظام على ضرورة إجراء هذا الحوار والشكوك الناتجة عن محاولته حرق المراحل باتجاهه، فكان قرار المنسقية بالمقاطعة وهو ما أفسد على النظام بعض جوانب خطته التي كانت ترمي إلى إدخالها في حظيرة التدجين، ثم كان من نتائج حوار 2011 محاولة إعادة هيكلة للمشهد السياسي تضمن للنظام شكلا مقبولا أمام شركائه “في التنمية” خارجيا، أما داخليا فهو لا يبالي، إذ أنه يملك النفوذ والسلطة وكتيبة من المفترين، وقبل ذلك وبعده تأييد المؤسسة العسكرية، أو قياداتها على الأقل.
بعد ذلك الحوار غير التوافقي قطع النظام الحاكم أشواطا حثيثة نحو تزوير مقدمات العملية السياسية حيث روج في الشارع بأن هناك معارضتين أولاهما “ناصحة” تسعى لرقي بالبلد والدفع به للسير قدما على طريق التنمية وأخراهما مخربة “ناطحة” تسعى إلى تدمير هيكلة الدولة من أجل أغراض شخصية بحتة لقادتها.
وجاءت الخطوة الثانية نحو مزيد من تدمير المشهد السياسي حيث دعا النظام من جديد إلى حوار سياسي آخر تم تنظيمه على مدى أكثر من عشرين يوما من شهر أكتوبر 2016، وهو حوار قاطعته المعارضة لنفس الأسباب التي جعلتها تقاطع حوار 2011. غير أن مقاطعة المعارضة الجادة لهذا الحوار منحت النظام الفرصة كاملة لتشكيل مشهد سياسي آخر فرخص وعلى وجه السرعة لأحزاب “معارضة” جديدة شاركته حواره مع ذاته، ليكمل مسيرته وهو مرتاح نحو تشكيل المشهد السياسي الموعود.
المشهد السياسي الجديد الذي سعى النظام إلى تشكيله يتمثل في إقصاء المعارضة الجادة من المشهد بشكل كامل وخلق معارضة معدلة وراثيا تناصره عند كل مأزق، وتسايره عند كل منعرج، وهذا ما نشهد نتائجه اليوم، حيث أوضحت النتائج التي أسفرت عنها صناديق اقتراع ما يسمى “التعديلات الدستورية” المنظمة يوم السبت 05/08/2017 أن تزوير العملية السياسية في البلد قد نمى بل استوى على سوقه، وأن تدجين المواطن قد اكتمل وتجذر، وهذا مؤشر خطير يؤكد أن البلد يتجه بسرعة فائقة نحو مدارك الظلمات. ليبقى المشهد السياسي الموريتاني يدور بين تهريج المتصدرين لتسيير الشأن العام من النظام والسائرين في فلك وتزوير العملية السياسية بشكل عام، مما يطرح مزيدا من علامات الاستفهام حول وطن هذا حاله وتلك وضعيته.
اليوم نحتاج في موريتانيا إلى عقلاء يتصفون بنكران الذات وتقديم المصلحة العليا للبلد من أجل تنظيم حوار سياسي اجتماعي اقتصادي يجمع ولا يفرق ويعلي من شأن المصلحة العليا لموريتانيا التي يدفعها هذا النظام وحاشيته إلى هاوية سحيقة.
ولن أختم هذه الكلمات المتقطعة قبل أن أسطر ضمنها أن المعارضة الجادة – رغم حضورها وفاعليتها أيام حملة العبث بالدستور وقبل ذلك على مراحل متباعدة – كانت وما زالت تفتقد إلى شيء من الذكاء في التعامل مع النظام وقدر من نفاذ البصيرة في الكشف عن نواياه والتعامل معها باحترافية، ونصيب من صدق الحدس السياسي لاستخلاص أهم الدروس والعبر للاستفادة منها في التعامل مع هذا الواقع الخطير، الذي يشكل تهديدا فعليا على شكل المشهد السياسي ومضمون الخطاب داخل حيزه.