المدرسة الجمهورية,,,
لا يختلف الناس حول أهمية ما يغرس في النشء، في سنوات تحصيله الأولى من قيم وأخلاق يتربى عليها يافعا لتسوسه بقية مراحل عمره.
كان التعليم عندنا، قبل قيام الدولة، يركز على تلقي المعارف وغرس القيم الإسلامية، وتأبيد العادات والتقاليد السائدة في المجتمع، بمفهومه العام والخاص…
ثم جاءت المدرسة الاستعمارية بأهدافها المحددة المحدودة؛ تكوين وكلاء إدارة ومترجمين. ولم تكن التربية المدنية تعني لها شيئا. نجد صدى لذلك بشكل مفجع في مذكرات أحمد كلي ولد الشيخ سيديه.. ” كان التعليم المقدم من طرف مدرسنا مختصرا، لكنه صلب. على سبيل المثال، لم يكن لنا أن نتعلم التاريخ أو الجغرافيا. فتاريخ فرنسا البعيدة وجغرافيتها ظلا مجهولين هنا… على الجانب الآخر، لم يكن لبلادنا، مع كامل الأسف، تاريخ أو جغرافيا يتداولان في المدارس الجديدة. في الحقيقة كنا في ذلك التعليم بلا جنسية…”)مسار من المسرات، ترجمة باب ولد هارون، دار المستقبل، ط1 ، 2021، ج1، ص:19(. لم يتغير الأمر كثيرا بعد الاستقلال!!
كنا، جيل تمدرس السبعينات نتلقى تعليما بلا هوية؛ ندرس المعارف، دون أن تزرع فينا القيم الوطنية.. نقف في طابور الصباح، ثم نلج الفصول دون ترديد النشيد الوطني، ولم يكن في المدارس أعلام. ولم يكن لمادة التربية المدنية والدينية، التي تدرس في المرحلة الإعدادية أي صلة بالتربية الوطنية، وإنما كانت دروس التربية المدنية القليلة، يتم التركيز على التربية الدينية، تتحدث عن التقسيم الإداري للإعدادية. لا زلت أذكر أول جملة في أول درس من التربية المدنية ألقاه فينا الأستاذ موسى العلوي رحمه الله.. ” يا بني إن المدير، ومدير الدروس، والمراقب العام…” ثم يسرد مهامهم!!! وكان ذلك مدعاة لتندرنا…
لم تكن مفردة “وطن”، ومشتقاتها متداولة في الخطاب الرسمي، ولا الخطاب التربوي. كان الخطاب المفرنس يستخدم مفردة Pays، وتترجم إلى العربية حرفيا: البلد. ويتحاشى الخطاب المفرنس مفردة “Patrie” ربما بسبب تداولها الواسع في الخطابات المؤدلجة الثورية. ولا يمكن النظر إلى المفردتين على أنهما مترادفتين، إذ تحيل مفردة “Pays”، في معناها الأول إلى ” أرض دولة، أمة”، وفي معنى آخر إلى ” منطقة محددة من منطلق جغرافي، أو اقتصادي…” أما مفردة “Patrie” فتحمل شحنة عاطفية تتميز بها.. ” البلد التي ولدنا فيها، أو ننتمي إليها بالمواطنة، ونحس اتجاهها بروابط عاطفية”. ليست هذه الروابط العاطفية معطى فطريا وإنما تنمى عبر مراحل التعليم الأولى؛ الروضة وما بعدها، ولا يتم ذلك إلا عبر المحتوى التعليمي والتربوي. وهذا، بالذات، ما ركز عليه من أطلقوا شعار “المدرسة الجمهورية” 1879،” تؤسس القوانين التي تمت المصادقة عليها 1879، و1889 مدرسة الجمهورية الثالثة التي تمثل العلمانية إحدى ركائزها الرئيسة.”
هذا المحتوى العلماني هو الذي أعطى المدرسة الجمهورية هويتها في مقابل مدارس الأكليروس، ولا معنى له في سياقنا. ما يعني ضرورة إعطاء “المدرسة الجمهورية” محتوى يناسب المجال التداولي الوطني. صحيح أننا نركز كثيرا، عند الحديث عن المدرسة الجمهورية إلى دورها المؤمل في تعزيز اللحمة الوطنية، لكن هذه اللحمة ينبغي أن تبنى على حب الوطن، والفخر بالانتماء إليه، والاستعداد للتضحية في سبيله. تنمى كل هذه المعاني في النشء من خلال الأناشيد الوطنية، ورفع العلم كل صباح، وترديد النشيد الوطني في الطابور الصباحي، وتبجيل معاني التضحية من أجل الوطن في أبطال المقاومة، والضباط والجنود الذين سقطوا في حاسة الشرف في حرب الصحراء المؤلمة، وفي مواجهة الإرهاب البغيض…
إن مدارسنا اليوم، وخاصة في التعليم الخصوصي، لا تبني مواطنا صالحا، وإنما تشحن عقول الأطفال بمعلومات تعينهم على النجاح في المسابقات، لتحسين، أو المحافظة على أوضاعهم الاقتصادية. أما القضايا الوطنية فتغيب تماما عن الإدارة، وطاقم التدريس…
في إحدى المدارس الخصوصية تدرس التربية المدنية باللغة الفرنسية، والهدف المعلن: تحسين مستوى التلاميذ في الفرنسية، أما محتوى المادة فلا قيمة له!!! إن حرص فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني على إعادة الاعتبار إلى “المدرسة الجمهورية” بوصفها بوتقة ينصهر فيها أطفالنا بعيدا عن الفروق من أي نوع كانت، ينبغي يصاغ في محتوى تعليمي وتربوي يبني المواطن الموريتاني الصالح المحب لوطنه، الفخور بالانتماء إليه. فيتم الحرص على ترسيخ ما أهملته المدرسة الاستعمارية: التاريخ والجغرافيا؛ التاريخ الوطني بوصفه مصدر فخر واعتزاز، والجغرافيا الوطنية بوصفها مدفن الأجداد وموطن الأحفاد.. الأرض التي لا نبيعها، ولا نسلمها، ونموت دونها واقفين على أديمها… لدي أطفال أعدهم بإرسالهم إلى قاعدة صلاح الدين في أول دفعة للتجنيد الإجباري أتمناها وشيكة…
كم من قراء هذه الصفحة يعرف أين تقع قاعدة صلاح الدين؟