نعيش هذه الأيام على وقع حملة رئاسية انطلقت قبل وقتها ضمن المظاهر الصارخة لعدم احترام القانون، تماما كما هو أسلوب ولد عبد العزيز المعهود أمام كل استحقاق. لم يأت مرشح النظام ليضيف أي لمسة خصوصية ولا إيجابية على هذه الانتخابات وكأنه لا يملك رأيا مستقلا فيها، بل يتم تسير حملته من البيت الرئاسي وعلى نحو وضع “الحافر على الحافر”: مروحة عسكرية ، تجييش الجنرالات والقبائل ووسائل الدولة، استخدام القوة العمومية وتعطيل عمل بعض المرافق العمومية ومصالح المواطنين في سبيل استقبال مرشح “استمرار النهج “. ومع ذلك يوجد من يزعم استقلاليته وأكثر القوم حنكة من يعتبرها “مؤجلة “، أي أن النوايا الحقيقية ستظهر بعد النجاح، فكيف يرضى المرء بأن يهرب من الواقع إلى تبرير الغدر يا للعار! وبأي جريرة يُؤخذ الناخب المطحون للتصويت لطرف لا يملك أكثر من النوايا التي يقبع جلها في طي الكتمان ؟ لا أعتقد أن لاشرعية الانتخابات في مصلحة أي من المترشحين ، لكنها بالفعل في مصلحة ولد عبد العزيز المتشبث بحماية مصالحه وأكثر من ذلك حماية نفسه ، لهذا فهو الذي يوجه مسار اللعبة في اتجاهين :
ـ إظهار السيطرة الكاملة على المرشح .
ـ التكفل بنجاحه .
ولا يريد التدخل من أي جهة قوية ولا أي كتلة سياسية بشكل علني في مسار دعم مرشحه أو “صفيه ” ـ دون أي تَشّفٍ في المعارضة التي ذهبت إلى هناك بسرعة لافتة ـ لأن ذلك سيضعف من فكرة “رئيس” تسليم المفتاح ( أنا هو من رَشّحك وأنا هو من ضمنت لك الفوز وحدي ) وهو بذلك يُفرط في الإساءة إليه إظهارا وتذكيرا بأبوته لهذا النظام ولتلك العلاقة التي تمتد لأربعين سنة، ولمشيئته في استمرار سيطرته على مقاليد الحكم. لهذا لا يمكن أبدا فصل ولد الغزواني عن الخيار الاضطراري لعزيز كبديل شرعي لمأمورية ثالثة بقلب وجسم منفصلين .
ليس افتئاتا القول أننا أمام انتخابات بمنطق 6/6 تتجه لفرض فوز مرشح السلطة مع تقارب كبير في الشكل: جنرال لايزال ضمن القوة الاحتياطية ويدعمه الجنرالات المستفيدين باسم المؤسسة العسكرية على المستوين اللوجستي والسياسي ويدعمه رئيس في السلطة لا يهمه سوى حماية نفسه وليس وضع السودان ببعيد. لم يملك غزواني في أي يوم من الأيام الطموح للرئاسة، وقد كان ضمن الحراك الذي يسعى لتعديل الدستور من اجل مأمورية ثالثة، وهذا في الواقع ضد الأهداف البنيوية للديمقراطية في أحسن تجلياتها المتمثلة في فتح فرص التناوب ،وضد العقد السياسي (بين الانقلابين 2005 غزواني عزيز ) من جهة والطيف السياسي الوطني من جهة ثانية الذي أدخل المواد المحصنة في الدستور ضمن إصلاحات أخرى كانت ثمنا لتزكية الانقلاب لدى المجتمع الدولي وضد احترام القانون .إنه فصل من مسرحية “البقاء” لعزيز وهذا يؤكده كل من الرجلين كل حسب طبعه، ففي حين يظهر عزيز بكل قسوة سيطرته على غزواني وأنه هو الممسك الوحيد بأوراق الترشيح يُظهر غزواني التودد الشديد والارتباط بعزيز خوفا من النكوص عن دعمه وإمعانا في إظهار الولاء والامتنان له حتى تحين فرصة التخلص منه التي يروج لها الكثير من داعميه . التفاصيل كثيرة حول عدم جدية ترشيح غزواني كرئيس يملك زمام قراره وكامل السلطة فعندما أخذ محيط عزيز الشخصي نشاطه المحموم لتمرير المأمورية “المحظورة ” كان آخر شخص يودعه في صالة الشرف، وهو متوجه إلى دبي، وزير الدفاع حينها غزواني، وفور مغادرته أصدر غزواني الأوامر لثلاثة نواب من المحيط العائلي بالتسجيل ضمن النواب الداعمين لملتمس تعديل الدستور من أجل مأمورية ثالثة، بل تدخل أيضا في اتجاه جهتين: قائد الأركان ورئيس البرلمان حسب أخبار متواترة لاستقبال نواب المأمورية و مباركة ذلك الجهد ، وعندما تم التراجع عن خيار تعديل الدستور من أجل مأمورية ثالثة كانت الرسالة الوحيدة التي يريد غزواني إيصالها إلى الكل أنه رفيق درب عزيز وصديقه الشخصي وأنه استمرار لنهجه على درجة فساده. لا يتعلق الموضوع بإثبات قوة أو ضعف مرشح النظام بل مرتبط بالنظر للانتكاسة الكبيرة للديمقراطية و لانعكاس هذه التجربة على الرهانات الوطنية خاصة التناوب والإصلاح والإقصاء والنهب . وعلى طبيعة من سيجلس على الكرسي. نحن أمام مشهد مريع: رجل جالس على كرسي الرئاسة وواحد واقف حوله، وديون متراكمة وفقر ومآسي لا حصر لها تسيطر على المشهد، فما هي أولويات الرئيس الحقيقية حينها: استمرار النهج أو ثورة من أجل الإصلاح ؟ إنه تعقيد لا يصور ولا يمكن تركه للتخمين أوكمسألة معطلة ومتروكة للمستقبل وللمؤامرات، فذلك غير مقنع وغير جدي أمام أكبر تحديات تواجه حاضر ومستقبل البلد .غزواني من بيت من خصائصه الصفاء مع الله، وغني عن القول أن غزواني فضل التربية في بيت آخر هو بيت الجيش الذي من ميزاته التضحية والانضباط ، وإذا اختلطت مزايا البيتان يكون على ابن شيخ طريقة القظف وأول فريق في الجيش الموريتاني عدم قبول المشاركة في لعب دور البطل في مؤامرة على الشعب وعلى المستقبل أي على حقوق الأفراد وعلى بلده بكامل استقراره وتنميته ، فإن لم يكن هو الرئيس مع ما يملك من نقص في مجال الاقتصاد والإدارة مع عدم سيطرته على مقاليد الحكم في مواجهة بيئة ومناخ مدمرين، يكون قَـبِل بدور البطل في لعبة خطيرة ليست من الشهامة في شيء ولا تنتمي قطعا لأي من المدرستين. وإذا سلمنا جذلا بإكراهات ما لولد الغزواني تجعله غير قادر على الخلوة بنفسه لتحديد حجم التهديد الذي يحمله ترشحه للوطن في الوضعية التي ذكرنا ولا تقييم جريرة تداعياتها، فإن النخبة التي لا تعيش تحت نفس ضغط الأحداث ولا تحمل نفس الإكراه وهي تواجه منعطفا تاريخيا تعرف كل المعرفة خطورته وأنه يتطلب نمطا مغايرا من احترام الشعب وقوانينه وموارده وفتح الباب أمام الخبرات الوطنية وأمام الشراكة الواسعة لكي يتسنى تلافي الوضع وستكون في وضع المتآمر على البلد أو المتورط في تدميره ، إنها في أحسن الحالات تعمل لخلق رئيس مسمّر (قطعة للتغطية على الملك فقط في عالم “الشطرنج”) فكيف لنخبتنا أن تجاهد لتوفر الظروف التي يستمر فيها عزيز ويدفن الشعب الموريتاني في الفقر والبطالة والجهل .في حين يختزل مرشحنا في فكره وسلوكه أسمى مظاهر الاقتناع بالشراكة مع الخبرات والقوة الحية في البلد وإعطاء الأسبقية للقوانين وللكفاءات في تسيير الشأن العام وللمواطن في موارد بلده وأرضه. نحن نشاهد خلال مجريات الأحداث محاكمات كبيرة لكل من عزيز وغزواني إن جانب كبير من جلد غزواني بسبب علاقته بعزيز لا أكثر ( العِرّم إلِّ ينكتل من إجريمة بابريص ) وباستثناء أربع حسابات في الفضاء الإلكتروني، ثلاثة منها تابعة لمحيط القصر وبتسيير أحد المديرين السابقين للإذاعة الوطنية : حساب ولد المحجوب لتشويه صورة سيدي محمد ولد بوبكر و”فيافي” الانتخابات أو فيديوهات بإسم “وذكر” التي تنتجها خلية كبيرة تملك بإمكانياتها الضخمة وبجهود مضنية يكللها الفشل ثلاثة أهداف :السيطرة على العالم الافتراضي و تدمير صورة سيدي محمد ولد بوبكر وتجميل صورة النظام أي تزيين الخراب ـ يتفوق خطاب الإصلاح والتغيير وتظهر الجماهير تواقة لإبعاد حكم الطغمة إنه تغيير دعت له “المحسوبة “الأوضاع .
الدعوة لانتخاب سيدي محمد لولد بوبكر التي نادى بها أكثر المفكرين حصافة مثل ولد ابريد الليل على أساس من دقة التشخيص ووضوح الرؤية وقوة التأثير ونادت بها أطياف عديدة (من الأحزاب والكتل والمواطنين العاديين) ليست اعتباطية ولا مجانية. لقد كانوا كلهم أجمعون في نظام معاوية (ولد بوبكر وولد عبد العزيز وولد الغزواني ) وفي المرحلة الانتقالية وإلى حد الآن يتفوق سيدي محمد في إرث البراءة من حطام الفساد وسوء التسيير وعدم تلطخ السمعة دون أن يشوب مسلكه أي تذلل أو سلوك مناف لصورة الموظف الوطني المستقيم الذي لا يعرف سوى الوطن والذي لا يستخدم القبلية أو الجهوية أو التزلف في الخطاب سبيلا إلى مسلسل النجاحات والمصداقية التي يحتاجها غيره اليوم وقد راكم خبرة عالية في جو من توازن الشخصية والمصالحة مع الذات في حين كان موظفا من الدرجة الثانية والثالثة، فكيف به صاحب القرار . الشخصيات الوطنية التي تتحمل مسؤوليات تجاه الوطن مدركة لحجم الفرص المفتوحة أمام تطور البلد عندما يتقلد سيدي محمد زمام الحكم وتعرف بنفس العمق حجم الخطر عندما يفوز عزيز عن طريق غزواني بمأمورية ثالثة .مع أن الاحتمالات المطروحة لفوز غزواني ضعيفة جدا فالكل يعرف أنه لن يستفيد إلا من شعبية الكرسي ومن الواضح أن الجاذبية التي ظل يتمتع بها الكراسي عرفت تراجعا مضطردا خلال هذه العشرية وكانت تقوم أساسا على الإكراه ” الخوف من الانتقام ” خاصة أن سلطة المجتمع والقوة العمومية مسخران لذلك الهدف دون مواربة إنها أحدى ركاز النفور من هذا النظام، ومع ذلك يبني عزيز استراتيجية فوز مرشحه على قاعدة شعبية الكرسي القديمة عادة يبني العسكري غير اللامع استراتيجيته الحربية على قواعد المعركة السابقة .نحن اليوم أمام استحقاقات وأمام ووضع مختلفين: مستوى عال من الوعي والضجر من النظام العسكري وتدني شامل لأوضاع المواطنين وانتظار ثروة طائلة لم تظهر أي بوادر للشفافية في تسيرها ويتخوف الشعب من أن تلحق بالنفط والذهب والنحاس والسمك ، مقابل وضوح الرؤية لدي شريكنا في تلك الثروة ( السينغال) الذي أعطى صورة واضحة عنها وعن كيفية استغلالها لمواطنيه .إنه بالمختصر المفيد وضع لا يقبل بالتهاون إزاء المستقبل، وليس مثل أي وضعية سابقة ولهذا يجب التعامل بالبصيرة والضمير لا بالتغاضي والعواطف .
“فذلكم الرباط، فذلكم الرباط”
محمد محمود ولد بكار